بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 21 مايو 2017

" عبادة بن الصامت.. رجل بألف " بقلم د. صالح العطوان الحيالي

عبادة بن الصامت.. رجل بألف

 د. صالح العطوان الحيالي
ــــــــــــــــــــــ
عندما نعت عمربن الخطاب (رض) عبادة بهذا الوصف يوم أن أرسله على رأس ربع المدد إلى جيش عمرو بمصر، هل كان قد وعى على وجه اليقين حقيقة هذا الرجل الذي كان في طبعه وطبيعته أعجوبة ما أتى الزمان لها بنظير؟ إن عبادة الذي خبره عمر(رض) زمنًا طويلًا يساوي ألف رجل ليس في ميدان الحرب والقتال فحسب، لكن في ميادين أخرى تعددت بتعدد مواهبه، وشدة إخلاصه واستقامة طبعه التي صارت مضرب الأمثال.إن مشهدًا واحدًا من مئات المشاهد التي شهدها عبادة، وكان أحد أبطالها الرئيسين، إذا شهده غيره من الرجال، لكان من حقه أن يُعدَّ من العظماء؛ أما هو فلا يلقي بالًا، حين يُغَضُّ عنه الطرف، وحين يخفت ذكره بينما تزخر الكتب بسير رجال ما بلغوا معشار فضله.
إن قريشًا لا تتسامح مع من يعارض سياستها ويخالف سادتها، وإن قريشًا رأت في عبادة عدوًّا شديد البأس، كما رأت في صحبه الأبطال عمار وسلمان والمقداد وابن مسعود وأبو ذر ودرتهم رمز البطولة والفداء الإمام على، فهؤلاء النفر لا يقيمون لمعايير قريش وزنًا، وما تنشغل به قريش وتشقى من أجله لا يساوي عندهم ذرات غبار تثيره أقدامهم في طريق جهادهم الوعر.
جاء الإسلام إنسانيا صرفًا يساوي بين الناس ولا مجال فيه للمفاضلة إلَّا بالتقوى، وأبى الطغاة إلَّا أن يكون قرشيًّا متعاليًا ينحاز للسادة فقط ولا يأبه لمن سواهم.
لك أن تبصر عبادة وهو شاب في السادسة والثلاثين يخطو بخطوات ملؤها السكينة والوقار نحو معلم البشرية الخير؛ ليعلن إسلامه بين يديه في بيعة العقبة الأولى في العام الحادي عشر للبعثة.. طول قامة مع متانة في البنيان مع سُمرة شديدة وجمال في الملامح لا تخطئه عين، يتضوَّأ بنور وهاج ينبعث من روح محبة للحق لا تشغلها عنه الشواغل. كان عبادة في المدينة حليفًا ليهود بني قينقاع بين قومه وبينهم تحالف تدعمه التجارة وتقويه سطوة المال، وفور علمه بكيدهم للمسلمين يخلع هذا الحلف قائلًا: “إنما أتولى الله ورسوله والمؤمنين. فيتنـزل القرآن مثنيًّا على هذا الموقف العظيم الذي يضع منهجًا واضحًا ـ منذ البداية ـ للولاء الحق أين يكون موضعه فيقول عز من قائل: “وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) المائدة.لا يتحير الناظر في أمر عبادة وهو يراه ملازمًا للرسول يحفظ عنه الحديث، ويسأله في أمور الدين والدنيا، ويفي له وعد البيعة “ألا يخاف في الحق لومة لائم” فيكون من أئمة الفضل ممن اختصهم الرسول بجمع القرآن الكريم في حياته، بعد أن ظل طيلة فترة نزول الوحي من كتّابه.. ثم إنهم يصمتون عامدين عن ابن الصامت!
ربما جاز لنا أن نتخيل حال عبادة يوم أن مات الرسول، وقد سكت المؤرخون عن ذكره، هل أذهلته الصدمة؟ هل انزوى بعيدًا عن الكل؟ لماذا لم يكن عبادة ممن ذكروا في حادثة سقيفة بني ساعدة، وهو أحد كبار الخزرج، وكان ضمن الإثني عشر نقيبًا الأول؟ لا نرى دليلًا على وجوده في السقيفة، ولا نجد ما يؤكد أنه كان أول من بايع أبا بكر من الخزرج على حد زعم البعض!
وعندما تولى عمر أرسله هو ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء إلى الشام لتعليم أهلها القرآن، فأقام بحمص ثم توجه إلى فلسطين، وقد تقلد عدة مناصب في عهد النبوة وفي عصر الراشدين، فقد كان عاملًا على جمع الصدقات في عصر النبوة، وذكر خليفة بن خياط أن أبا عبيده ولاه إمرة حمص ثم صرفه إلى الجهاد، ولما توفى أبو عبيدة ولاه عمر حمص ثم صرفه إلى الجهاد في مصر. ثم عاد إلى بلاد الشام، فلم يزل بالشام إلى أن توفي بالرملة، ولنا أن نتشكك في توليه الإمارة على حمص؛ وذلك لرفضه تولي الإمارة مطلقًا، لكنه كان قائمًا على أمر التعليم والقضاء كما هو معروف.
وقف عبادة بن الصامت في وجه معاوية الذي ولاه بن الخطاب إمارة الشام، خلفًا لأخيه يزيد، لما رآه فيه من حب للسلطة وإقبال عليها، ولما عاينه منه من انصراف عن الخضوع للشرع الحنيف ولسنة سيد المرسلين، وقد حدث الصدام الأول كما يروي ابن ماجه عن عبادة بن الصامت، أنه غزا مع معاوية أرض الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كِسَر الذهب بالدنانير، وكسر الفضة بالدراهم، فقال: يا أيها الناس، إنكم تأكلون الربا، سمعت رسول الله “صلى الله عليه وسلم” يقول: “لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلَّا مثلًا بمثل، لا زيادة بينهما، ولا نَظِرة” فقال له معاوية: يا أبا الوليد، لا أرى الربا في هذا إلَّا ما كان من نَظِرة، فقال عبادة: “أحدثك عن رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، وتحدثني عن رأيك! لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك عليّ فيها إمرة”. فلما قفل لحق بالمدينة، فقال له عمر بن الخطاب: ما أقدمك يا أبا الوليد؟ فقص عليه القصة وما قال من مساكنته. فقال: “ارجع يا أبا الوليد إلى أرضك، فقبَّـح الله أرضًا لست فيها وأمثالك”. وكتب إلى معاوية: لا إمرة لك عليه، واحمل الناس على ما قال، فإنه هو الأمر.
وكان معاوية يحب أن يتكلم برأيه في الخطبة، كما تكلم في شأن الفرار من الطاعون، أما عبادة فكان يصحح له قائلًا:” أمك هند أعلم منك” فما يلبث معاوية أن يتراجع.
وأخرج الحافظ ابن حجر عن الوليد بن عبادة قال: كان أبي عبادة مع معاوية في عسكره، فقام خطيب يمدح معاوية ويثني عليه، فقام عبادة بتراب في يده فحثاه في فم الخطيب، فغضب معاوية، فقال له عبادة مجيبًا له: إنك يا معاوية لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله “صلى الله عليه وسلم” بالعقبة على السمع والطاعة في منشطنا ومكسلنا وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم، وقال رسول الله “صلى الله عليه وسلم: “احثوا في أفواه المداحين التراب”. فكتب معاوية إلى عثمان بالمدينة أن عبادة قد أفسد عليَّ الشام وأهله، فإما أن تكفه إليك، وإما أن أخلي بينه وبين الشام، فكتب إليه عثمان أن أَرحِل عبادة حتى ترجعه إلى داره من المدينة، فبعث بعبادة حتى قدم المدينة، فدخل على عثمان في الدار، وليس فيها إلَّا رجل من السابقين أو من التابعين الذين أدركوا القوم متوافرين، فلم يفج عثمان به، إلَّا وهو قاعد في جانب الدار، فالتفت إليه، وقال: مالنا ولك يا عبادة؟ فقام عبادة بين ظهراني الناس، فقال: “إني سمعت رسول الله “صلى الله عليه وسلم” أبا القاسم يقول: “إنه سيلي أموركم بعدي رجال يُعرِّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى، فلا تضلوا بربكم” فو الذي نفس عبادة بيده، إن فلانًا ـ يعني معاوية ـ لمن أولئك، فما راجعه عثمان بحرف.
وروي أنه رأي عيرًا تحمل زقاقًا، فسأل: أزيت هو؟ قالوا: بل خمر تباع لحساب معاوية، فقام إلى شفرة فمزقها جميعًا، وأراق ما بها، مما أغضب معاوية حين علم أشد الغضب.
وكان عبادة قد اشترك في فتح اللاذقية، وجبْلة، وقبرص وبها توفيت زوجته أم حرام بنت ملحان، وضريحها موجود إلى يومنا هذا في لارناكا داخل مسجد شيده العثمانيون ويدعى هالة سلطان، كما شهد فتح مصر سنة وكان أمير ربع المدد كما ذكرنا، وكان قائد فتح الإسكندرية في العام الخامس والعشرين للهجرة، يقول ابن عبد الحكم: لما أبطأ على عمرو بن العاص فتح الإسكندرية، استلقى على ظهره، ثم جلس فقال: “إني فكرت في هذا الأمر، فإنه لا يصلح آخره إلَّا من أصلح أوله ـ يريد الأنصار ـ فدعا عبادة بن الصامت، فعقد له، ففتح الله على يديه الإسكندرية من يومهم ذلك”.
وكان عبادة قد ترأس وفد التفاوض مع المقوقس الذي ارتعب من سواد عبادة، وكان عاقبة ذلك إيثار المقوقس للسلامة إذ انسحب بقواته مما عجل بنصر المسلمين.
مات عبادة بن الصامت رضي الله عنه بـفلسطين في العام الرابع والثلاثين للهجرة في خلافة عثمان وقد ناهز الثانية والسبعين، ودفن في مدينة الرملة رضي الله عنه وأرضاه



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق